روائع مختارة | روضة الدعاة | الدعاة.. أئمة وأعلام | الشيخ أبو الحسن الندوي.. رباني الأمة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > الدعاة.. أئمة وأعلام > الشيخ أبو الحسن الندوي.. رباني الأمة


  الشيخ أبو الحسن الندوي.. رباني الأمة
     عدد مرات المشاهدة: 4124        عدد مرات الإرسال: 0

عالم رباني وداعية مجاهد وأديب تميز بجمال الأسلوب وصدق الكلمات، إنه الداعية الكبير ورباني الأمة الشيخ أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ

صاحب كتاب من أشهر كتب المكتبة الإسلامية في هذا القرن وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"

من هو أبو الحسن الندوي؟

الشيخ أبو الحسن الندوي غني عن التعريف فقد عرفه الناس من خلال مؤلفاته الرائدة التي تعد من المصابيح التي أضاءت الطريق أمام طلاب العلم من جيله والأجيال التي تلته.

ونذكر هنا سطورا ومواقف لا تنسى من حياته.

ولد بقرية تكية، مديرية رائي بريلي، الهند عام 1332هـ/ 1913م.

تعلم في دار العلوم بالهند (ندوة العلماء)، والتحق بمدرسة الشيخ أحمد علي في لاهور، حيث تخصص, في علم التفسير.

ومن يوم تخرجه أصبح شعلة للنشاط الإسلامي سواء في الهند أو خارجها.

وقد شارك رحمه الله في عدد من المؤسسات والجمعيات الإسلامية، ومنها تأسيس المجمع العلمي بالهند، وتأسيس رابطة الأدب الإسلامي.

كما أنه:

عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، وعضو المجلس التنفيذي لمعهد ديوبند، ورئيس مجلس أبناء مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية.

يعد من أشهر العلماء المسلمين في الهند، وله كتابات وإسهامات عديدة في الفكر الإسلامي.

فله من الكتب:

موقف الإسلام من الحضارة الغربية، السيرة النبوية، من روائع إقبال، نظرات في الأدب، من رجالات الدعوة، قصص النبيين للأطفال وبلغ مجموع مؤلفاته وترجماته 700 عنوانًا، منها 177 عنوانا بالعربية.

وقد ترجم عدد من مؤلفاته إلى الإنجليزية والفرنسية والتركية والبنغالية والإندونيسية وغيرها من لغات الشعوب الإسلامية الأخرى.

كان سماحة الشيخ كثير السفر إلى مختلف أنحاء العالم لنصرة قضايا المسلمين والدعوة للإسلام وشرح مبادئه.

وإلقاء المحاضرات في الجامعات والهيئات العلمية والمؤتمرات تولى منصب رئيس ندوة العلماء منذ عام 1961م وظل فيه حتى وفاته، وقد منح عددا من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.

ثناء العلماء عليه:

قال عنه الشيخ الغزالي ـ رحمه الله ـ:

هذا الإسلام لا يخدمه إلا نفس شاعرة محلقة، أما النفوس البليدة المطموسة فلا حظ لها فيه، لقد وجدنا في رسائل الشيخ الندوي لغة جديدة، وروحًا جديدة.

والتفاتًا إلى أشياء لم نكن نلتفت إليها، إن رسائل الشيخ هي التي لفتت النظر إلى موقف ربعي بن عامر-رضي الله عنه- بين رستم قائد الفرس وكلماته البليغة له، التي لخصت فلسفة الإسلام في كلمات قلائل.

وعبرت عن أهدافه بوضوح بليغ، وإيجاز رائع: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. أبو الحسن الندوي- فيما أعلم- هو أول من نبهنا إلى قيمة هذا الموقف وهذه الكلمات، ثم تناقلها الكاتبون بعد ذلك وانتشرت.

وقد أصدر الدكتور يوسف القرضاوي بيانا من الدوحة نعى فيه العالم الكبير الشيخ أبا الحسن مؤكدا أن الشيخ الندوي كان يمثل نسيجا مميزا من العلماء المسلمين ينضم إلى العلماء الكبار الذين فقدتهم الأمة الإسلامية خلال العام الأخير من القرن العشرين "ابتداء بعلامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مرورا بأديب الفقهاء وفقيه الأدباء الشيخ علي الطنطاوي ومن بعده الفقيه المجدد العلامة الشيخ مصطفى الزرقا وبعده المحدث الكبير الشيخ محمد ناصر الدين الألباني".

وقال الشيخ القرضاوي في نعيه أن الشيخ الندوي كان يتمتع بخمس صفات تميزه عن غيره من العلماء فهو إمام رباني إسلامي قرآني محمدي عالمي.

فأما أنه رباني فلأن سلف الأمة قد أجمعوا على أن الرباني هو من يعلم ويعمل ويعلِّم وهي الصفات الثلاثة التي كان يتحلى بها الشيخ، وأما أنه إسلامي فلأن الإسلام كان محور حياته ومرجعه في كل القضايا والدافع الذي يدفعه إلى الحركة والعمل والسفر والكتابة والجهاد.

ساعيا لأن يقوي الجبهة الداخلية الإسلامية في مواجهة الغزوة الخارجية عن طريق تربية الفرد باعتباره اللبنة الأساسية في بناء الجماعة المسلمة.

وأما أنه قرآني فلأن القرآن هو مصدره الأول الذي يستمد منه ويعتمد عليه ويرجع إليه ويستمتع به ويعيش في رحابه ويستخرج منه اللآلئ والجواهر.

وأما أنه محمدي فليس لمجرد أنه من نسل الإمام الحسن حفيد الرسول (صلى الله عليه وسلم) فكم من حسنيين وحسينيين تناقض أعمالهم أنسابهم [ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه].

بل لأنه جعل من الرسول الكريم أسوته في هديه وسلوكه وحياته كلها واتخذ سيرته نبراسا له في تعبده وزهده وإعراضه عن زخارف الدنيا وزينتها فهو يعيش في الخلف عيشة السلف.

مواقف لاتنسى:

وفي حياة الشيخ الندوي مواقف كثيرة فيها دروس وعبر للعاملين على طريق الدعوة ومنها ما يرويه الشيخ يوسف القرضاوي فيقول: أذكر أنه حينما زارنا منذ أكثر من ثلاثين عامًا في قطر.

وكان يشكو من قلة موارد (دار العلوم) بندوة العلماء، اقترح عليه بعض الإخوة أن نزور بعض الشيوخ وكبار التجار، نشرح لهم ظروف الدار ونطلب منهم بعض العون لها فقال:

لا أستطيع أن أفعل ذلك! وسألناه: لماذا؟ قال: إن هؤلاء القوم مرضى، ومرضهم حب الدنيا، ونحن أطباؤهم، فكيف يستطيع الطبيب أن يداوي مريضه إذا مد يده إليه يطلب عونه؟ أي يطلب منه شيئًا من الدنيا التي يداويه منها؟!

قلنا له: أنت لا تطلب لنفسك، أنت تطلب للدار ومعلميها وتلاميذها حتى تستمر وتبقى. قال: هؤلاء لا يفرقون بين ما تطلبه لنفسك وما تطلبه لغيرك ما دمت أنت الطالب، وأنت الآخذ!! وكنا في رمضان، وقلنا له حينذاك: ابق معنا إلى العشر الأواخر.

ونحن نقوم عنك بمهمة الطلب. فقال: إن لي برنامجًا في العشر الأواخر لا أحب أن أنقضه أو أتخلى عنه لأي سبب، إنها فرصة لأخلو بنفسي وربي. وعرفنا أن للرجل حالًا مع الله، لا تشغله عنه الشواغل، فتركناه لما أراد، محاولين أن نقلده فلم نستطع، وكل ميسر لما خلق له.

مآثر الشيخ الشخصية والأخلاقية:

يقول ا.د.يوسف القرضاوى: الشيخ أبو الحسن علي الحسني الندوي أحد أعلام الدعاة إلى الإسلام في عصرنا، بلا ريب ولا جدال، عبَّرت عن ذلك: كتبه ورسائله ومحاضراته التي شرقت وغربت، وقرأها العرب والعجم، وانتفع بها الخاص والعام.

كما أنبأت عن ذلك رحلاته وأنشطته المتعددة المتنوعة في مختلف المجالس والمؤسسات، وبعض كتبه قد رزقها الله القبول، فطبعت مثنى وثلاث ورباع، وأكثر من ذلك، وترجمت إلى لغات عدة، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

والحق أن الشيخ- رحمه الله- قد آتاه الله من المواهب والقدرات، ومنحه من المؤهلات والأدوات ما يمكنه من احتلال هذه المكانة الرفيعة في عالم الدعوة والدعاة.

فقد آتاه الله: العقل والحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] والحكمة أولى وسائل الداعية إلى الله تعالى، كما قال-عز وجل- {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125].

ولهذا نجده يقول الكلمة الملائمة في موضعها الملائم، وفي زمانها الملائم، يشتد حيث تلزم الشدة، حتى يكون كالسيل المتدفق، ويلين حيث ينبغي اللين، حتى يكون كالماء المغدق، وهذا ما عرف به منذ شبابه الباكر إلى اليوم.

الثقافة الواسعة:

ويوضح الدكتور القرضاوي أن الثقافة الواسعة هي أهم جوانب حياة الشيخ الندوي فقد آتاه الله: الثقافة التي هي زاد الداعية الضروري في إبلاغ رسالته، وسلاحه الأساسي في مواجهة خصومه.

وقد تزوَّد الشيخ بأنواع الثقافة الستة التي يحتاجها كل داعية وهي: الثقافة الدينية، واللغوية، والتاريخية، والإنسانية، والعلمية، والواقعية.

بل إن له قدمًا راسخة وتبريزًا واضحًا في بعض هذه الثقافات، مثل الثقافة التاريخية، كما برز ذلك في أول كتاب دخل به ميدان التصنيف.

وهو الكتاب الذي كان رسوله الأول إلى العالم العربي قبل أن يزوره ويتعرف عليه، وهو كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي نفع الله به الكثيرين من الكبار والصغار، ولم يكد يوجد داعية إلا واستفاد منه.

وكما تجلَّى ذلك في كتابه الرائع التالي: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" في جزئه الأول، ثم ما ألحق به من أجزاء عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وعن الإمام السرهندي: والإمام الدهلوي، ثم عن أمير المؤمنين علي (المرتضى) رضي الله عنه.

وقد ساعده على ذلك:

تكوينه العلمي المتين، الذي جمع بين القديم والحديث، ومعرفته باللغة الإنجليزية إلى جوار العربية والأردية والهندية والفارسية، ونشأته في بيئة علمية أصيلة، خاصة وعامة، فوالده العلامة عبد الحي الحسني صاحب موسوعة "نزهة الخواطر" في تراجم رجال الهند وعلمائها.

ووالدته التي كانت من النساء الفضليات المتميزات فكانت تحفظ القرآن، وتنشئ الشعر، وتكتب وتؤلف، ولها بعض المؤلفات، ومجموع شعري. كما نشأ في رحاب "ندوة العلماء" ودار علومها، التي كانت جسرًا بين التراث الغابر، والواقع الحاضر، والتي أخذت من القديم أنفعه، ومن الجديد أصلحه.

ووفقت بين العقل والنقل، وبين الدين والدنيا، وبين العلم والإيمان، وبين الثبات والتطور، وبين الأصالة والمعاصرة.

الملكة الأدبية:

ووهب الله للشيخ الندوي البيان الناصع والأدب الرفيع، كما يشهد بذلك كل من قرأ كتبه ورسائله.

وكان له ذوق وحس أدبي، فقد نشأ وتربي في حجر لغة العرب وأدبها منذ نعومه أظفاره، وألهم الله شقيقه الأكبر أن يوجهه هذه الوجهة في وقت لم يكن يعني أحد بهذا الأمر، لحكمة يعلمها الله تعالى.

ليكون همزة وصل بين القارة الهندية وأمة العرب، ليخاطبهم بلسانهم، فيفصح كما يفصحون، ويبدع كما يبدعون، بل قد يفوق بعض العرب الناشئين في قلب بلاد العرب.

يقول الدكتور القرضاوي:

لقد قرأنا الرسائل الأولى للشيخ الندوي التي اصطحبها معه حينما زارنا في القاهرة سنة 1951م، ومنها: من العالم إلى جزيرة العرب، ومن جزيرة العرب إلى العالم.. معقل الإنسانية دعوتان متنافستان.. بين الصورة والحقيقة.. بين الهداية والجباية.. وغيرها.

فوجدنا فيها نفحات أدبية جديدة في شذاها وفحواها، حتى علّق الشيخ الغزالي-رحمه الله- على تلك الرسالة بقوله: هذا الدين لا يخدمه إلا نفس شاعرة! فقد كانت هذه الرسائل نثرًا فيه روح الشعر، وعبق الشعر. وقرأنا بعدها مقالة: اسمعي يا مصر.. ثم اسمعي يا سورية. اسمعي يا زهرة الصحراء.. اسمعي يا إيران.. وكلها قطرات من الأدب المُصفى.

وقرأنا ما كتبه في مجلة "المسلمون" الشهرية المصرية، التي كان يصدرها الداعية المعروف الدكتور سعيد رمضان البوطي: ما كتبه من قصص رائع ومشوق عن حركة الدعوة والجهاد، التي قام بها البطل المجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، وما كتبه من مقالات ضمنها كتابة الفريد "الطريق إلى المدينة" الذي قدمه أديب العربية الأستاذ علي الطنطاوي-رحمه الله-.

وقال في مقدمته: يا أخي الأستاذ أبا الحسن!

لقد كدت أفقد ثقتي بالأدب، حين لم أعد أجد عند الأدباء هذه النغمة العلوية، التي غنى بها الشعراء، من لدن الشريف الرضي إلى البرعي، فلما قرأت كتابك وجدتها، في نثر هو الشعر، إلا أنه بغير نظام. أ. هـ.

ولا غرو أن رأيناه يحفظ الكثير والكثير من شعر إقبال، وقد ترجم روائع منه إلى العربية، وصاغه نثرًا هو أقرب إلى الشعر من بعض من ترجموا قصائد لإقبال شعرًا.

القلب الحي:

ويواصل د. القرضاوي شرح جوانب فقه الدعوة عن الندوي فيقول: آتاه الله القلب الحي، والعاطفة الجياشة بالحب لله العظيم، ولرسوله الكريم، ولدينه القويم، فهو يحمل بين جنبيه نبعًا لا يغيض، وشعلة لا تخبو، وجمرة لا تتحول إلى رماد.

ولا بد للداعية إلى الله أن يحمل مثل هذا القلب الحي، ومثل هذه العاطفة الدافقة بالحب والحنان والدفء والحرارة، يفيض منها على من حوله، فيحركهم من سكون، ويوقظهم من سبات، ويحييهم من موات.

وكلام أصحاب القلوب الحية له تأثير عظيم في سامعيه وقارئيه، فإن الكلام إذا خرج من القلب دخل إلى القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان، ولهذا كان تأثير الحسن البصري في كل من يشهد درسه وحلقته، على خلاف حلقات الآخرين، ولهذا قيل: ليست النائحة كالثكلى!

هذا القلب الحي، يعيش مع الله في حب وشوق، راجيًا خائفًا، راغبًا راهبًا، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، كما يعيش في هموم الأمة على اتساعها، ويحيا في آلامها وآمالها، لا يشغله هم عن هم، ولا بلد عن آخر، ولا فئة من المسلمين عن الفئات الأخرى.

وهذه العاطفة هي التي جعلته يتغنى كثيرًا بشعر إقبال، ويحس كأنه شعره هو، كأنه منشئه وليس راويه، وكذلك شعر جلال الدين الرومي، وخصوصا شعر الحب الإلهي.

كما جعلته يولي عناية خاصة لأصحاب القلوب الحية، مثل: الحسن البصري والغزالي والجيلاني وابن تيمية والسرهندي وغيرهم.

الخلق الكريم:

وآتاه الله الخلق الكريم والسلوك القويم، وقد قال بعض السلف: التصوف هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في التصوف! وعلق على ذلك الإمام ابن القيم في "مدارجه" فقال: بل الدين كله هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.

ولا غرو أن أثنى الله على رسوله بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وأن أعلن الرسول الكريم عن غاية رسالته، فقال: [إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق]

ومن عاشر الشيخ-ولو قليلًا- لمس فيه هذا الخلق الرضي، ووجده مثالًا مجسدًا لما يدعو إليه، فسلوكه مرآة لدعوته، وهو رجل باطنه كظاهره، وسريرته كعلانيته، نحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا نزكيه على الله-عز وجل-.

ومن هذه الأخلاق الندوية:

الرقة، والسماحة والسخاء والشجاعة، والرفق، والحلم، والصبر، والاعتدال، والتواضع، والزهد، والجد، والصدق مع الله ومع الناس، والإخلاص، والبعد عن الغرور والعجب، والأمل والثقة والتوكل واليقين والخشية والمراقبة، وغيرها من الفضائل والأخلاق الربانية والإنسانية.

وهذا من بركات النشأة الصالحة في بيئة صالحة في أسرة هاشمية حسنية، {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ}.

إن الداعية الحق هو الذي يؤثِّر بحاله أكثر ممّا يؤثر بمقاله، فلسان الحال أبلغ، وتأثيره أصدق وأقوى.

وقد قيل: حال رجل في ألف رجل أبلغ من مقال ألف رجل في رجل! وآفة كثير من الدعاة: أن أفعالهم تكذب أقوالهم، وأن سيرتهم تناقض دعوتهم، وأن سلوكهم في وادٍ، ورسالتهم في وادٍ آخر. وأن كثيرًا منهم ينطبق عليه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ*كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2،3].

العقيدة السليمة:

ويتناول الدكتور القرضاوي جانب العقيدة في حياة الندوي فيقول: آتاه الله قبل ذلك كله: العقيدة السليمة: عقيدة أهل السنة والجماعة، سليمة من الشركيات والقبوريات والأباطيل، التي انتشرت في الهند، وكان لها سوق نافقة، وجماعات مروجة تغدو بها وتروح، تأثروا بالهندوس ومعتقداتهم وأباطيلهم.

كما هو الحال عند جماعة "البريليوين" الذين انتسبوا إلى التصوف اسمًا ورسمًا، والتصوف الحق براء منهم، وقد حفلت عقائدهم بالخرافات، وعباداتهم بالمبتدعات، وأفكارهم بالترهات، وأخلاقهم بالسلبيات.

ولكن الشيخ تربى على عقائد مدرسة "ديوبند" التي قام عليها منذ نشأتها علماء ربانيون، طاردوا الشرك بالتوحيد، والأباطيل بالحقائق، والبدع بالسنن، والسلبيات بالإيجابيات.

وأكدت ذلك مدرسة الندوة- ندوة العلماء- وأضافت إليها روحًا جديدة، وسلفية حية حقيقية، لا سلفية شكلية جدلية.

كالتي نراها عند بعض من ينسبون إلى السلف، ويكادون يحصرون السلفية في اللحية الطويلة، والثوب القصير، وشن الحرب على تأويل نصوص الصفات.

إن العقيدة السلفية عند الشيخ هي: توحيد خالص لله تعالى لا يشوبه شرك، ويقين عميق بالآخرة لا يعتريه شك، وإيمان جازم بالنبوة لا يداخله تردد ولا وهم، وثقة مطلقة القرآن والسنة، مصدرين للعقائد والشرائع والأخلاق والسلوك

المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي:

يلخص العلامة القرضاوي أهم جوانب المشروع الفكري والدعوي للعلامة الندوي في ركائز وأسس تبلغ العشرين، منها انطلق، وإليها يستند، وعليها يعتمد، نجملها فيما يلي:

1ـ تعميق الإيمان في مواجهة المادية:

تعميق الإيمان بالله تعالى، وتوحيده سبحانه ربا خالقًا، وإلهًا معبودًا واليقين بالآخرة، دارًا للجزاء، ثوابًا وعقابًا، في مواجهة المادية الطاغية، التي تجحد أن للكون إلهًا يدبره ويحكمه، وأن في الإنسان روحًا هي نفحة من الله، وأن وراء هذه الدنيا آخرة.

المادية التي تقول: إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع! ولا شيء بعد ذلك. أو كما حكى الله عنهم: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [الأنعام:29] وقد تخللت هذه الركيزة الفكرية المحورية معظم رسائله وكتبه؛ وخصوصًا: الصراع بين الإيمان والمادية.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكر الإسلامي والفكرة الغربية.

2- إعلاء الوحي على العقل:

بمعنى اعتبار الوحي هو المصدر المعصوم، الذي تؤخذ منه حقائق الدين وأحكامه، من العقائد والشرائع والأخلاق، واعتبار نور النبوة فوق نور العقل.

فلا أمان للعقل من العثار إذا سار في هذا الطريق وحده، ولا أمان للفلسفات المختلفة في الوصول إلى تصور صحيح عن الألوهية والكون والإنسان والحياة، حتى الفلسفة الدينية أو علم الكلام حين خاضا هذه اللجة غرقا فيها.

وقصور العقل هنا شهد به بعض كبار المتكلمين كالفخر الرازي، والآمدي وغيرهما، وبعض كبار الفلاسفة، وأحدثهم (كانت) وكذلك فلسفات الإشراق لم تصل بالإنسان إلى بر الأمان، وقد بين ذلك الشيخ الندوي في عدد من كتبه، منها: النبوة والأنبياء في ضوء القرآن. ومنها: الدين والمدنية، وأصله محاضرة ألقاها في مقتبل الشباب (في الثلاثين من عمره)

3- توثيق الصلة بالقرآن الكريم باعتباره كتاب الخلود، ودستور الإسلام وعمدة الملة، وينبوع العقيدة، وأساس الشريعة:

وهو يوجب اتباع القواعد المقررة في تفسيره وعدم الإلحاد في آيه، وتأويلها وفق الأهواء والمذاهب المنحولة، ولهذا أنكر على القاديانيين هذا التحريف في فهم القرآن. ومن قرأ كتب الشيخ وجده عميق الصلة بكتاب الله، مستحضرًا لآياته في كل موقف محسنًا الاستشهاد بها غاية الإحسان.

وله ذوق متفرد في فهم الآيات، كما أن له دراسات خاصة في ضوء القرآن مثل: تأملات في سورة الكهف- والتي تجلي الصراع بين المادية والإيمان بالغيب- والنبوة والأنبياء في ضوء القرآن.. ومدخل للدراسات القرآنية.. وغيرها من الكتب والرسائل، وقد عمل مدرسًا للقرآن وعلومه في دار العلوم بلكهنو عدة سنوات.

4-توثيق الصلة بالسنة والسيرة النبوية:

وذلك أن السنة مبينة القرآن وشارحته نظريًا، والسيرة هي التطبيق العملي للقرآن، وفيها يتجلى القرآن مجسدًا في بشر [كان خلقه القرآن] وتنجلي الأسوة الحسنة التي نصبها الله للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، لهذا كان من المهم العيش في رحاب هذه السيرة، والاهتداء بهديها والتخلق بأخلاقها.

لا مجرد الحديث عنها، باللسان أو بالقلم. وقد بين الشيخ أثر الحديث في الحياة الإسلامية، كما أبدع في كتابة السيرة للكبار وللأطفال، وهو هنا يجمع بين عقل الباحث المدقق، وقلب المحب العاشق، وهذا يكاد يكون مبثوثًا في عامة كتبه.

5- إشعال الجذوة الروحية (الربانية الإيجابية):

إنه إشعال للجذوة الروحية في حنايا المسلم، وإعلاء "نفخة الروح" على قبضة الطين والحمأ المسنون في كيانه، وإبراز هذا الجانب الأساسي في الحياة الإسلامية التي سماها الشيخ "ربانية لا رهبانية".

وهو عنوان لأحد كتبه الشهيرة، وقد سماه بهذا الاسم لسببين: أولهما: أن يتجنب اسم التصوف لما علق به من شوائب، وما ألصق به من زوائد، على مر العصور.

وهذا من جناية المصطلحات على الحقائق والمضامين الصحيحة، وما التصوف في حقيقته إلا جانب التزكية التي هي إحدى شعب الرسالة المحمدية، أو جانب الإحسان الذي فسره الرسول في حديث جبريل الشهير.

والسبب الثاني: إبراز العنصر الإيجابي في هذه الحياة الروحية المنشودة، فهي روحية اجتماعية، كما سماها أستاذنا البهي الخولي رحمه الله، وهي ربانية إيجابية تعمل للحياة ولا تعتزلها، ولا تعبدها، وتجعل منها مزرعة للحياة الأخرى: حياة الخلود والبقاء.

كما وضح الشيخ الندوي الجانب التعبدي الشعائري في حياة المسلم في كتابه المعروف "الأركان الأربعة" وهو يمثل نظرة جديدة في عبادات الإسلام الكبرى: الصلاة والزكاة والصيام والحج، وآثارها في النفس والحياة.

6- البناء لا الهدم:

والجمع لا التفريق فالشيخ الندوي رحمه الله جعل همه في البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق وأنا أشبهه هنا بالإمام حسن البنا رحمه الله، الذي كان حريصًا على هذا الاتجاه الذي شعاره: نبني ولا نهدم، ونجمع ولا نفرق، ونُقرّب ولا نباعد، ولهذا تبنى قاعدة المنار الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه".

وهذا هو توجه شيخنا الندوي فهو يبعد ما استطاع عن الأساليب الحادة، والعبارات الجارحة، والموضوعات المفرقة.

ولا يقيم معارك حول المسائل الجزئية، والقضايا الخلافية. ولا يعني هذا أنه يداهن في دينه، أو يسكت عن باطل يراه أو خطأ جسيم يشاهده، بل هو ينطق بما يعتقده من حق، وينقد ما يراه من باطل أو خطأ، لكن بالتي هي أحسن، كما رأيناه في نقده للشيعة في مواقفهم من الصحابة في كتابه "صورتان متضادتان".

وفي نقده للعلامة أبي الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب، فيما سماه "التفسير السياسي للإسلام" وإن كنت وددت لو اتخذ له عنوانًا غير هذا العنوان، الذي قد يستغله العلمانيون في وقوفهم ضد شمول الإسلام، وقد صارحت الشيخ بذلك ووافقني عليه رحمه الله.

7- إحياء روح الجهاد في سبيل الله:

وتعبئة قوى الأمة النفسية للدفاع عن ذاتيتها ووجودها، وإيقاد شعلة الحماسة للدين في صدور الأمة، التي حاولت القوى المعادية للإسلام إخمادها، ومقاومة روح البطالة والقعود، والوهن النفسي، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت.

وهذا واضح في كتابه "ماذا خسر العالم" وفي كتابه "إذا هبت ريح الإيمان" وفي حديثه الدافق المعبر عن الإمام أحمد بن عرفان الشهيد وجماعته ودعوته، وعن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله من أبطال الإسلام. ومنذ رسائله الأولى وهو ينفخ في هذه الروح، ويهيب بالأمة أن تنتفض للذود عن حماها، وتقوم بواجب الجهاد بكل مراتبه ومستوياته حتى تكون كلمة الله هي العليا.

8- استيحاء التاريخ:

الإسلامي وبطولاته: والركيزة الثامنة: استيحاء التاريخ- ولا سيما تاريخنا الإسلامي- لاستنهاض الأمة من كبوتها، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، ومخزن عبرها، ومستودع بطولاتها. والشيخ يملك حسًا تاريخيًا فريدًا، ووعيًا نادرًا بأحداثه، والدروس المستفادة منها، كما تجلى ذلك في رسالته المبكرة "المد والجزر في تاريخ الإسلام".

وفي كتابه: "ماذا خسر العالم" وفي غيره، والتاريخ عنده ليس هو تاريخ الملوك والأمراء وحدهم، بل تاريخ الشعوب والعلماء والمصلحين والربانيين. ليس هو التاريخ السياسي فقط، بل السياسي والاجتماعي والثقافي والإيماني والجهادي. ولهذا يستنطق التاريخ بمعناه الواسع.

ولا يكتفي بمصادر التاريخ الرسمية، بل يضم إليها كتب الدين، والأدب، والطبقات المختلفة، وغيرها، ويستلهم مواقف الرجال الأفذاذ.

وخصوصًا المجددين والمصلحين، كما في كتابه: "رجال الفكر والدعوة في الإسلام" الذي بين فيه أن الإصلاح والتجديد خلال تاريخ الأمة: حلقات متصلة، ينتهي دور ليبدأ دور، ويغيب كوكب ليطلع كوكب. والنقص ليس في التاريخ: إنما هو في منهج كتابته وتأليفه.

9- نقد الفكرة الغربية والحضارة المادية أوالجاهلية الحديثة:

ورؤيته في هذا واضحة كل الوضوح لحقيقة الحضارة الغربية وخصائصها، واستمدادها من الحضارتين: الرومانية اليونانية، وما فيهما من غلبة الوثنية، والنزعة المادية الحسية والعصبية القومية، وهو واع تمامًا للصراع القائم بين الفكرة الغربية والفكرة الإسلامية وخصوصًا في ميادين التعليم والتربية والثقافة والقيم والتقاليد.

وقد أنكر الشيخ موقف الفريق المستسلم للغرب، المقلد له تقليدًا أعمى في الخير والشر، ومثله: موقف الفريق الرافض للغرب كله، المعتزل لحضارته بمادياتها ومعنوياتها.. ونوه الشيخ بموقف الفريق الثالث، الذي لا يعتبر الغرب خيرًا محضًا، ولا شرًا محضًا. فيأخذ من الغرب وسائله لا غاياته، وآلياته لا منهج حياته.

فهو ينتخب من حضارته ما يلائم عقائده وقيمه، ويرفض ما لا يلائمه، واهتم الشيخ هنا بشعر د. إقبال باعتباره أبرز ثائر على الحضارة المادية، مع عمق دراسته لها، وتغلغله في أعماقها. وقد تجلى هذا في كثير من كتبه ورسائله، ولا سيما: حديث مع الغرب.. ماذا خسر العالم.. الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية. أحاديث صريحة في أمريكا.. محاضرة "الإسلام والغرب" في أوكسفورد.

10-نقد الفكرة القومية والعصبيات الجاهلية:

وهو ما شاع في العالم العربي الإسلامي كله بعد ما أكرم الله به هذه الأمة من الأخوة الإسلامية، والإيمان بالعالمية، والبراءة من كل من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية أو مات على عصبية، وأشد ما آلمه: أن تتغلغل هذه الفكرة بين العرب الذين هم عصبة الإسلام، وحملة رسالته، وحفظة كتابه وسنته.

وهو واحد منهم نسبًا وفكرًا وروحًا. لذا وقف في وجه "القومية العربية" العلمانية المعادية للإسلام، المفرقة بين المسلمين.

والتي اعتبرها بعضهم "نبوة جديدة" أو "ديانة جديدة" تجمع العرب على معتقدات ومفاهيم وقيم غير ما جاء به محمد ((صلى الله عليه وسلم) الذي هدى الله به أمة العرب، وجمعهم به من فرقة، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.

وهو رغم رفضه للقومية، لا ينكر فضل العرب ودورهم وريادتهم، بل هو يستنهض العرب في محاضراته ورسائله وكتبه للقيام بمهمتهم، والمناداة بعقائدهم ومبادئهم في وجه العالم: "محمد رسول الله روح العالم العربي" ويوجه رسالة عنوانها: اسمعوها مني صريحة أيها العرب.

ورسائل أخرى: العرب والإسلام.. الفتح للعرب المسلمين. اسمعي يا مصر.. اسمعي يا سورية.. اسمعي يا زهرة الصحراء (يعني: الكويت).. كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟.. كيف دخل العرب التاريخ.. العرب يكتشفون أنفسهم: تضحية شباب العرب... إلى آخره.

11- تأكيد عقيدة ختم النبوة:

ومقاومة الفتنة القاديانية وختم النبوة عقيدة معلومة من الدين بالضرورة لدى المسلمين طوال القرون الماضية، ولم يثر حولها أي شك أو شبهة، وإنما أوجب تأكيد هذه العقيدة: ظهور الطائفة القاديانية بفتنتهم الجديدة التي اعتبرها الشيخ "ثورة على النبوة المحمدية". ولقد كتب في هذه القضية ما كتب من مؤلفات ومقالات.

ولكن الشيخ شعر بمسئوليته الخاصة إزاءها؛ فكتب في بيان أهمية ختم النبوة في اعتبارها تكريمًا للإنسانية بأنها "بلغت الرشد"، وأنها انتهت إلى الدين الكامل الذي يضع الأسس والأصول.

ويترك التفصيلات للعقل البشري، الذي يولد ويستنبط في ضوء تلك الأصول ما تحتاج إليه المجتمعات في تطورها المستمر، وهي تغلق الباب على المتنبئين الكذابين، وتمنع فوضى الدعاوى الكاذبة المفترية على الله تعالى.

وقد أكد الشيخ ذلك في فصل من كتابه "النبوة والأنبياء" عن محمد خاتم النبيين، ثم ألف كتابًا عن "النبي الخاتم"، وجعل السيرة النبوية للأطفال بعنوان "سيرة خاتم النبيين"، ثم صنف كتابًا خاصًا عن "القادياني والقاديانية" تضمن دراسة وتحليلًا لشخصية "غلام أحمد" ودعوته، ونشأته في أحضان الاستعمار الإنجليزي، واعترافه المتكرر بذلك في رسائله وكتاباته، ودعوته المسلمين إلى طاعة الإنجليز.

وإلغاء الجهاد، وبيّن الشيخ الندوي بكل صراحة: أننا-مع القاديانة- في مواجهة دين إزاء دين، وأمة إزاء أمة. كما اشتد نكيره عليهم في تحريفهم للقرآن، وتلاعبهم باللغة العربية، وهذا الكتاب مرجع علمي موثق بالأدلة من مصادرها القاديانية ذاتها.

12-مقاومة الردة الفكرية:

والركيزة الثانية عشرة: هي مقاومة الردة الفكرية التي تفاقم خطرها بين العرب والمسلمين عامة، والمثقفين منهم خاصة. فكما قاوم الشيخ الردة الدينية التي تمثلت في القاديانية، التي أصر علماء المسلمين كافة في باكستان على اعتبارهم أقلية غير مسلمة، لم يألُ جهدًا في محاربة هذه الردة العقلية والثقافية.

ولا غرو أن جند قلمه ولسانه وعلمه وجهده في كشف زيفها، ووقف زحفها، ومطاردة فلولها، وقد ألف فيها رسالته البديعة الشهيرة "ردة ولا أبا بكر لها!".

13-تأكيد دور الأمة المسلمة واستمرارها في التاريخ نبراس هداية للبشرية:

، والشهادة على الأمم، والقيام على عبادة الله وتوحيده في الأرض، كما أشار إلى ذلك الرسول يوم بدر "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض". وهذه الأمة صاحبة رسالة شاملة، وحضارة متكاملة، مزجت المادة بالروح، ووصلت الأرض بالسماء، وربطت الدنيا بالآخرة، وجمعت بين العلم والإيمان، ووفّقت بين حقوق الفرد ومصلحة المجتمع.

وهذه الأمة موقعها موقع القيادة والريادة للقافلة البشرية، وقد انتفعت منها البشرية يوم كانت الأمة الأولى في العالم. ثم تخلفت عن الركب لعوامل شتى، فخسر العالم كثيرًا بتخلفها.

وهو ما عالجه كتاب "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" الذي عرفت به الشيخ قبل أن ألقاه، والذي استقبله العلماء والدعاة والمفكرون المسلمون استقبالًا حافلًا، وقال شيخنا الدكتور محمد يوسف موسى: إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لإعادة مجد الإسلام!

ولا زال العلامة الندوي يبدئ ويعيد في تنبيه الأمة المسلمة على القيام بدورها الرسالي، ومهمتها التي أُخرجت لها، فقد أخرجها الله للناس لا لنفسها. وآخر إنتاجه في ذلك محاضرته التي ألقاها في دولة قطر، بعنوان "قيمة الأمة الإسلامية بين الأمم ودورها في العالم"

14- بيان فضل الصحابة ومنزلتهم في الدين:

أي بيان فضل الجيل المثالي الأول في هذه الأمة، وهو جيل الصحابة رضوان الله عليهم، أبر الناس قلوبًا، وأعمقهم علمًا، وأقلهم تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ونصرة دينه، وأنزل عليهم ملائكته في بدر والخندق وحنين، وهم الذين أثنى عليهم الله تعالى في كتابه في عدد من سوره، وأثنى عليهم رسوله في عدد من أحاديثه المستفيضة.

وأكد ذلك تاريخهم وسيرتهم ومآثرهم، فهم الذين حفظوا القرآن، والذين رووا السنة، والذين فتحوا الفتوح، ونشروا الإسلام في الأمم، وهم تلاميذ المدرسة المحمدية، وثمار غرس التربية النبوية.

وهم أولى من ينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وقوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]. وهم طليعة الأمة وأسوتها في العلم والعمل، وأئمتها في الجهاد والاجتهاد، وتلاميذهم من التابعين على قدمهم.

وإن لم يبلغوا مبلغهم، [خير القرون قرني ثم الذين يلونهم] فمن شكك في عظمة هذا الجيل وفي أخلاقه ومواقفه، فقد شكك في قيمة التربية المحمدية.

وهذه الصورة المعتمة التي رسمها الشيعة لجيل الصحابة، مناقضة للصورة المشرقة الوضيئة التي رسمها أهل السنة والجماعة، وهذا ما وضحه علامتنا في رسالته الفريدة "صورتان متضادتان" لنتائج جهود الرسول الأعظم الدعوية والتربوية، وسيرة الجيل المثالي الأول عند أهل السنة والشيعة الإمامية.

15- التنويه بقضية فلسطين وتحريرها:

فقضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، ولا العرب وحدهم، بل هي قضية المسلمين جميعًا، فلا بد من إيقاظ الأمة لخطرها، وتنبيهها على ضرورة التكاتف لتحريرها، واتخاذ الأسباب، ومراعاة السنن المطلوبة لاستعادتها.

وليست هذه أول مرة تحتل فلسطين من قبل أعداء الدين والأمة، فقد احتلت أيام الحروب الصليبية نحو مائة عام، وأسر المسجد الأقصى تسعين سنة كاملة، حتى هيأ الله لهذا الأمة رجالا أفذاذًا، جددوا شباب الأمة بالإيمان، وإحياء روح الكفاح ومعنى الجهاد في سبيل الله، مثل: نور الدين وصلاح الدين، الذي أشاد به الشيخ الندوي كثيرًا في كتبه ورسائله.

ولا سبيل إلى تحرير فلسطين إلا بهذا الطريق، وعلى نفس هذا المنهاج تجميع الأمة على الإسلام، وتجديد روحها بالإيمان، وتربية رجالها على الجهاد، وقد كتب في ذلك الشيخ مثالات ورسائل، أظهرها "المسلمون وقضية فلسطين".

16- العناية بالتربية الإسلامية الحرة التي لا تستمد فلسفتها من الغرب ولا من الشرق:

إنما تستمد فلسفتها من الإسلام عقيدة وشريعة وقيمًا وأخلاقًا، في حين تقتبس وسائلها وآلياتها من حيث شاءت، في إطار أصولها المرعية، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها. وهو ينكر على التعليم القديم طرائقه في العناية بالألفاظ والجدليات، كما ينكر على التعليم الحديث إغفاله للروح وأهداف الحياة، وينقل عن إقبال قوله: أن التعليم الحديث لا يعلم عين الطالب الدموع، ولا قلبه الخشوع!

ولقد أولى شيخنا جانب التربية اهتمامًا بالغًا، لأنها هي التي تصنع أجيال المستقبل، والتهاون فيها تهاون في الثورة البشرية للأمة، وقد نقل الشيخ عن بعض شعراء الهند: أن فرعون كان يكفيه عن تذبيح بني إسرائيل أن ينشئ لهم كلية يكيف عقولهم فيها كما يريد، ولكنه كان غبيًا.

كتب الشيخ في ذلك رسائل، أبرزها: التربية الإسلامية الحرة، كما ناقش كثيرًا من قضايا التربية في كتابه: "كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز وجزيرة العرب؟". كما شارك الشيخ بنفسه في هذا المجال علمًا وعملًا.

17- العناية بالطفولة والنشء والكتابة للأطفال والناشئين بوصفهم رجال الغد:

وصناع تاريخ الأمم. وقد التفت الشيخ إلى هذا الأمر الخطير، وهو في الثلاثينات من عمره، وكتب مجموعة من قصص النبيين للأطفال، في لغة سهلة، وأسلوب عذب، وطريقة شائقة، مضمنًا إياها ما يحب من المعاني والقيم، ومن الدروس والعبر، ومن العقائد والمثل، حتى قال بعض العلماء: أنها "علم توحيد" جديد للأطفال، وأثنى عليها أديب كبير كالشهيد سيد قطب مارس هذا العمل أيضا.

وبعد ثلاثين سنة أو أكثر عاد فأكمل قصص الأنبياء، وختمها بسيرة خاتم النبيين (صلى الله عليه وسلم) كما أنشأ مجموعة "قصص من التاريخ الإسلامي" للأطفال أيضًا، وقال: أنه يرجو أن ينال بهذه الخطوة تقدير رجال التربية، وأن تليها خطوات، وتؤلف مجموعات.

18- إعداد العلماء والدعاة الربانيين:

الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية، وهذا ما اجتهد الشيخ في أن يسهم فيه بنفسه عن طريق التدريس في "دار العلوم" ثم عن طريق تطوير المناهج، وعن طريق وضع المقررات والكتب الدراسية، ثم عن طريق الاشتراك في مجالس الجامعات والمؤسسات التعليمية في الهند، وفي غيرها.

مثل المجلس الأعلى للجامعات الإسلامية بالمدينة المنورة. وهو يرى أن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن، الذي إذا استقضى قضى بحق، وإذا استفتى أفتى على بينة، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.

19- ترشيد الصحوة والحركات الإسلامية التي يشهدها العالم الإسلامي:

بل يشهدها المسلمون في كل مكان، حتى خارج العالم الإسلامي، حيث توجد الأقليات والجاليات الإسلامية في أوربا والأمريكتين والشرق الأقصى وغيرها. وهي صحوة عقول وقلوب وعزائم، ولكن يُخشى على الصحوة من نفسها أكثر من غيرها.

فتتآكل من الداخل، قبل أن تضرب من الخارج. وأعظم ما يُخشى على الصحوة: الغلو والتشديد في غير موضعه، والتمسك بالقشور وترك اللباب، والاشتغال الزائد بالجزئيات والخلافيات، وسوء الظن بالمسلمين إلى حد التأثيم والتضليل، بل التكفير.

والشيخ بطبيعته رجل معتدل في تفكيره، وفي سلوكه وفي حياته كلها: فهو قديم جديد، وهو تراثي وعصري، وهو سلفي وصوفي، ثابت ومتطور، في لين الحرير وصلابة الحديد.

وهكذا يريد لجيل الصحوة أن يكون. لم يقيد الشيخ الندوي نفسه بالالتزام بجماعة معينة، فقد بقى حرًا، يشرف على الجماعات من خارجها، فيرى من نواقصها ما لا يراه أعضاؤها، ويبصر نقاط ضعفها، فيوجه وينصح، وينقد ويسدد، ولعل في ذلك خيرًا. كما لا يدخر وسعًا في النصح لحكام المسلمين وزعمائهم ما وجد إلى ذلك سبيلا. وخصوصًا أنه لا يطمع في شئ من أحد منهم.

20- وآخر هذه الركائز وهي المكملة للعشرين دعوة غير المسلمين للإسلام:

، استكمالًا لما قامت به الأمة في العصور الأولى، وقد ساهم الشيخ في ذلك منذ عهد مبكر وهو ابن الثانية والعشرين بدعوة الدكتور أمبيدكر زعيم المنبوذين إلى الإسلام، ورحلته إليه في بومباي.

وهو يرى أن فضل الأمة الإسلامية على غيرها في قيامها بواجب الدعوة إلى الله، وأن البشرية اليوم رغم بلوغها ما بلغت من العلم المادي والتطور التكنولوجي أحوج ما تكون إلى رسالة الإسلام، حاجة الظمآن إلى الماء.

والسقيم إلى الشفاء، والأمة الإسلامية هي وحدها التي تملك قارورة الدواء، ومضخة الإطفاء. تلك هي الركائز العشرون، التي قام عليها فقه الدعوة عند الإمام الندوي، وكل ركيزة منها تحتاج إلى شرح وتفصيل، اسأل الله تعالى أن يعين عليه، ويوفق لإتمامه. أنه سميع مجيب

وفاة الإمام الندوي:

وكان الشيخ أبو الحسن الندوي قد توفاه الله في يوم مبارك وهو يوم الجمعة وفي شهر رمضان المبارك أثناء اعتكافه بمسجد قريته "تكية" بمديرية "راي باريلي" في شمال الهند وجرى دفنه مساء نفس اليوم في مقبرة أسرته بالقرية في حضور الأقارب والأهالي وبعض مسئولي ندوة العلماء التي ظل مرتبطًا بها طيلة حياته الحافلة بالجهاد والدعوة طوال 86 عامًا هي عمر الفقيد رحمه الله.

وقد عم الحزن الأوساط الإسلامية في الهند جمعاء، وصدرت بيانات عن كل الجمعيات والمنظمات والمؤسسات الإسلامية الكبرى تنعي وفاته، وتعتبرها خسارة لا تعوض لمسلمي الهند والعالم الإسلامي، ويصعب تعويضها في المستقبل القريب.

وكان في طليعة المعزين أمير الجماعة الإسلامية الهندية الشيخ محمد سراج الحسن، ورئيس جمعية العلماء الشيخ أسعد المدني، وإمام المسجد الجامع بدهلي عبد الله البخاري، وأمين مجمع الفقه الإسلامي الشيخ مجاهد الإسلامي القاسمي.

إلى جانب مسئولي الحكومة الهندية، كرئيس الوزراء أتال بيهاري واجباي، ورئيسة حزب المؤتمر سونيا غاندي.

وقال رئيس الوزراء الأسبق (في. بي. سينغ): إن وفاة الشيخ أبي الحسن خسارة شخصية له. وقد توالت التعازي من مختلف أنحاء الهند والعالم في الفقيد الكبير، وأقيمت له صلاة الغائب والترحم في مختلف المناطق.

المصدر: موقع نواحي